فلسفة صيام رمضان
يهدي الله سبحانه وتعالى الإنسان باتجاه، التكامل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، وهيأ السنن والقوانين التشريعية التي تضمن للسلوك المطلوب أن يأخذ مجراه بين الكتل الاجتماعية المتآلفة، ومن ضمن تلك السنن المقدسة شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن حيث جعله الله سبحانه وتعالى بالإضافة إلى كونه شهر عبادة وتعبد سبيلا طالب فيه المسلمين أن يكونوا أكثر تواصلاً وتراحماً وتودداً فيما بينهم.
وإذا كانت إحدى فوائد الصوم هي الإحساس بجوع الفقراء، فإن مغزاها يدخل في التقرب من شعور الطبقة الفقيرة في المجتمع الإسلامي، وتدخل بذلك العملية ضمن قائمة السلوك الاجتماعي المتكامل في الأمة الواحدة.
فالشعور بما يشعر به الفقراء أراده الشارع المقدس أن يكون الدافع لظهور سلوك اجتماعي يتحول فيما بعد إلى عُرف إيجابي يتواصل به الناس فيما بينهم، وهذه الأعراف التي أرادها الباري تعالى أن تكون حية وعملية في الشارع الإسلامي، ولها مناسبات استثنائية تنقذ الإنسان من استغراقه بتفاصيل الحياة اليومية، ولقد جاء شهر رمضان الكريم ليكون أفضل مناسبة تبعد تآكل الإنسان وضياعه وسط تلك التفاصيل الحياتية التي تكون سبباً لانشغاله عن ربه ودينه وأهله وأقاربه، لهذا فإن اليوم الرمضاني في هذا الشهر الفضيل يختلف تماماً عن بقية أيام السنة، على صعيد الأكل والشرب والعادات والعلاقات الإنسانية، ولشهر رمضان دور مهم في وضع برنامج حياة جديدة تختلف عن باقي أشهر السنة، فينكسر بذلك روتين الحياة، ويندفع الإنسان باتجاه معين يكفل السلوك الاجتماعي السليم الذي نادى به الإسلام منذ انطلاقته لتنظيم حياة البشر.
إن قراءة أولية في خطبة النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) التي قدم بها لشهر رمضان المبارك وقراءة أخرى لدعاء الإمام السجاد (عليه السلام) عند دخول هذا الشهر، تكشف ان شهر رمضان ليس شهر الصيام فحسب، بل هو شهر البناء والتربية على أكثر من صعيد.
فدعوة النبي (صلى الله عليه وآله) تمتد لأكثر من الصيام لتشمل: تلاوة الكتاب المجيد، التذكير بالمعاد، العطاء الكريم بالصدقات، الانفتاح الاجتماعي على الفقراء والمساكين والكبار والصغار وذوي القُربى، تحسين الأخلاق، التحنن على الأيتام، التوبة من الذنوب، الالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء، أداء الصلاة، الورع عن محارم الله، التنفل...
إن خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) هذه هي ورقة عمل تربوية أشبه بالوصفة الطبية التي يحرص الطبيب الحاذق على أن تؤدي كل مفردة من مفرداتها مفعولاً معيناً في العلاج النهائي للمرض الذي أتقن تشخيصه، وهكذا الشيء نفسه في دعاء الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في استقبال شهر الله الفضيل الذي يعبر عنه بالقول: (شهر رمضان، شهر الصيام، وشهر الإسلام وشهر الطهور، وشهر التمحيص، وشهر القيام الذي أنزل فيه القرآن هدىٍ للناس وبينات من الهدى والفرقان...) ثم يستطرد في تبيان بنود البرنامج التربوي المتكامل المشتقة مضامينه من فلسفة الصيام وأبعاده المختلفة، ومنها:
- الصوم يكف الجوارح عن المعاصي، واستعمال فيما يرضي الله عز وجل.
- الإخلاص في النية والقول والعمل.
- صلة الرحم بالبر والصلة، وتعاهد الجيران بالأفضال والعطية.
- تخليص الأموال من التبعات بتطهيرها بإخراج الزكوات.
- مراجعة من هجرنا وإنصاف من ظلمنا، ومسالمة من عادانا، في حدود ما يرضاه الله ورسوله وآله.
- التقرب إلى الله بالأعمال المستحبة والخيّرة الزاكية النامية.
هاتان الورقتان (خطبة النبي ودعاء الإمام السجاد) تعطيان الصورة الكلية للفهم الخاص بالصيام فليست المسألة مسألة إمساك عن المفطرات، ولا هي صيام بالنهار وقيام بالليل فحسب، بل هي كل هذه المفردات المتضافرة لخلق حالة التقوى عند الإنسان المؤمن والتي تشير إليها آية الصيام في قوله تعالى (لعلكم تتقون).
وإذا آمنا أن شهر رمضان هو شهر الإسلام والطهور والتمحيص، تكون الأعمال الواردة في هذا الشهر الفائق الرحمة من نسيج واحد من حيث وظائفها التي تؤديها بالنسبة للصائم:
- فالغسل: طهارة من الخبث.
- والصلاة: طهارة من الغفلة.
- والصيام: طهارة من النفاق.
منقول
- والاستغفار: طهارة من الذنوب والآثام.
- والقرآن: طهارة من الجهل والضلالة.
- والدعاء: طهارة من الضعف والفاقة.
- والصدقة: طهارة من البخل... وهكذا.
بهذا المنظار ينبغي أن يُنظر إلى شهر الصيام، لا أن يؤخذ مجزأً مبستراً، ولذا يفهم من ذلك قول النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله): (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش).
إن هذه الدرجة من الصيام هي (أضعف الإيمان) وأدنى الدرجات في سلم التكامل التربوي الذي يرمي المُربي الإسلامي من خلال هذه الفريضة العظيمة، أن يحققه بأفضل شروطه وأتم حالاته، كما نفهم إن رمز الصبر الذي يراد به (الصيام) في قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)، لا يتأتى من خلال العملية التقليدية للصيام (الإمساك عن المفطرات) بل من خلال التفاعل الروحي والالتزام المتكامل بكل ما تعنيه هذه الفريضة من واجبات وآداب وسلوك، وخلاصة القول إن الصوم المؤدي بشرطه وشروطه هو الذي يخلق حالة الصبر وهو الذي يبني حالة التقوى، وبتحقق هاتين الحالتين يكون الصوم أو شهر رمضان قد ارتسمت في مرآته صورة الأمة المسلمة المؤمنة، سواءً ببعدها الفردي المتعلق بالفرد الصائم نفسه وشخصيته الإيمانية الداخلية، أو ببعدها الجماعي الذي ينصهر في إطاره كامل مجموع أبناء الأمة بتواصل حلقاتها الفردية والأسرية والقبلية وسائر التكوينات الاجتماعية الأخرى.